عجائب الماء في حياة سيدنا موسى عليه السلام (2)
13/04/2012 بواسطة halahani
الجمانة الرابعة: عجائب الماء في حياة سيدنا موسى عليه السلام
2- ماء مدين وحياة ما قبل النبوة:
بات معروفاً أن القرآن الكريم ليس من عمل البشر، بل هم لا يستطيعون سورة واحدة منه، وقد تحداهم القرآن في ذلك، وتكمن عظمة القرآن في أنه يضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، فهناك قوة واحدة في هذا الوجود هي قوة الله، وهناك قيمة واحدة في هذه الدنيا هي قيمة الإيمان، فمن كانت قوة الله معه فلا خوف عليه ولو تكالبت عليه كل القوى، ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن ولا طمأنينة ولو ساندته الدنيا بأسرها…! ومن كان مؤمناً موحداً فله الخير كله .. ومن فقد قيمة الإيمان فلا ينفعه شيء البتة..!
إن هذه القيم الرفيعة تتضح فيما يلي من القص القرآني، حيث نرى كيف ينشئ القرآن النفس البشرية ويربيها .. ويرسم لها المنهاج .. فهو أداة لتربية النفوس ووسيلة لتقرير المعاني والحقائق .. فهو يبني القلوب ويبني الحقائق التي سوف تعمر هذه القلوب.
اكتمل سيدنا موسى عليه السلام فاشتد جسمه ونضج عقله، ووصلت رفعة أخلاقه إلى درجة المحسنين ولهذا كافأه الله تعالى بأن أعطاه الحكمة والعلم يقول الله تعالى: ( وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) القصص 14
وبديهي أن موسى عليه السلام وهو يتمتع بهذه الصفات الراقية المتميزة سيفطن بل سينكر ما يقوم به فرعون وأتباعه من ظلم شنيع وبغي لئيم على قومه من بني إسرائيل الذين أعلمته أمه أنه منهم.
أما ما يدعم الرأي القائل بترك موسى عليه السلام قصر فرعون وهروبِه منه، وحياتِه بعيداً عنه فهي تلك الإشارة الذكية في الآية القرآنية التي تقول: ( وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا) القصص 15، فقد انتهز فرصة ما للدخول خفية، وقيل دخلها نصف النهار عند القائلة، وقالوا: كان يوم عيد وكانوا قد اشتغلوا بلهوهم ولعبهم وهذا يدعمه كلام ابن اسحق) : كان لموسى شيعة من بني إسرائيل يستمعون منه، ويقتدون به فلما عرف ما هو عليه من الحق رأى فراق فرعون وقومه، فخالفهم في دينه حتى ذكر ذلك منه، فخافهم وخافوه، فكان لا يدخل المدينة إلا خائفاً مستخفياً).
فلما دخل موسى عليه السلام رأى رجلاً من أتباع فرعون يصارع آخر من بني إسرائيل لأنه يريد أن يسخِّره والإسرائيلي يرفض، فما إن رأى الإسرائيلي موسى حتى استغاث به، فانحاز موسى له فقد كان حانقاً أشد الحنق على أتباع فرعون فقبض أصابعه ولكم الفرعوني في صدره يريد مجرد دفعه وإبعاده عن الإسرائيلي، فإذا به يقتله…..!
وعلم موسى أنه أذنب فاعترف على الفور بما اقترفت يداه واستغفر ربه، وأناب إليه نادماً. وهنا لقطة إيمانية ثمينة يجب ألّا تفوتنا لأن سيدنا موسى يعلمنا درساً متميزا ًولم يكن قد أصبح نبياً بعد؛ وهو أن الإنسان إذا اقترف الذنب، لا يكابر، بل يعترف بذنبه وظلمه لنفسه، ثم يبادر بالتوبة والاستغفار: ( قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) القصص 16 ، فاستجاب الله إلى ضراعته، واستغفاره: ( فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، ومن هنا كان الفرق بين معصية آدم عليه السلام ومعصية إبليس، فآدم عصى بنص القرآن الكريم: ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ) طه 121 ، ولكنه سرعان ما اعترف بذنبه وأقر به ) : قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا) الأعراف 23 ،فقبل الله تعالى من آدم وغفر له: ( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) طه 122، أما إبليس فلم يعترف بذنبه عندما رد الأمر على الآمر بكبْر خسيس معلّلاً عدم سجوده قائلاً: ( قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) ص 76 ، ( أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ) الإسراء61، هذا وإن الله سبحانه وتعالى لم يأمر بالسجود لآدم تعظيماً لآدم، ولكن تعظيماً لفعل الله في خلق آدم والدليل على ذلك : ( فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) ص 72
والآن: يا من تفتي بغير ما أنزل الله تبتغي عَرَضَ الحياة الدنيا احذر أن تردّ على الله حكمه، وإلا فأنت كإبليس حين ردّ على الله حكمه، لكن أفت بالحكم الشرعي، ثم تعلل بعدها إذا شئت بأن الظروف لا تساعد على تطبيقه، فعلى الأقل تحتفظ بإيمانك، والمعصية تمحوها التوبة والاستغفار، أما الكفر فلا حيلة معه، هذا وإن مشروعية الاستغفار والتوبة في الدين الإسلامي من أجمل المعتقدات، إذ أنها تعطي الإنسان أملاً في أنه لن يطرد من رحمة الله تعالى، لأن رحمته واسعة تسع كل ذنوبه مهما كثرت وفي هذا يقول الله جلّ جلاله: ) ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ ) التوبة 118 ، والمعنى شرع لهم التوبة، وحثهم عليها ليتوبوا بالفعل فيقبل ذلك منهم . والتوبة بهذا المعنى تجعل الإنسان يتحمل مسؤولية أعماله وهذا فعل إنساني راق. بينما هناك بعض الأديان تُحمّل شخصاً واحداً خطايا البشرية كلها، بكل أعمالها الشنيعة وانحطاطها الأخلاقي تحت مسمى التخليص بالفداء فينجو المجرم بفعلته ويكون الإله هنا في أفظع درجات الظلم إذ يُلزم مخلوق واحد بحمل خطايا الجميع ….!!!!
نعود لموسى عليه السلام وقد استغفر ربه وقال: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِّلْمُجْرِمِينَ) القصص17 ، لقد أسبغت عليّ يا رب العالمين نعمة القوة والحكمة والعلم فلن استخدمها في دعم الظلم، وهذا التأثر العنيف لا يُستغرب من شخصية حارّة الوجدان قوية الاندفاع كشخصية موسى عليه السلام، وها هي تطل علينا في المشهد التالي مباشرة بكل انفعالاتها واندفاعاتها : ( فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ – فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَن يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَّهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) القصص 18-19 .
فبعد أن قضى موسى على الفرعوني بدأ الخوف يتسرب إليه، وخاف من افتضاح أمره, وأصبح قلقاً يتوقع الشر! وهذه الحالة النفسية التي عليها موسى توحي أنه لم يكن في ذلك الوقت من رجال القَصْر، وإلا فما أرخص أن يزهق أحدُ رجال القصر نفساً في عهود الظلم والطغيان ..!
وبينما موسى في خضم القلق والانفعال (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ ) إنه الرجل الإسرائيلي الذي استعان بموسى البارحة ها هو يشتبك مع فرعوني آخر ويستنجد بموسى للمرة الثانية، ومن جديد انفعلت نفس موسى الممتلئة بالغيظ من الظلم والنقمة على البغي فمدّ يده يريد أن يؤدب الفرعوني, ولكن الإسرائيلي ظن أن موسى متوجه إليه ولاسيما بعد أن قال له: (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ) تخلق الفتنة بعراكك الذي لا ينتهي ولا يثمر بل ويثير الثائرة على بني إسرائيل، فارتعد الإسرائيلي وقال لموسى: ( أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِن تُرِيدُ إِلَّا أَن تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ ) عندها علم الفرعوني أن موسى هو القاتل، ووصل الخبر إلى فرعون الذي أمر بقتل موسى. ولكن الله تعالى يريد نجاة موسى عن طريق رجل هُرع إلى موسى يحذره من بطش فرعون الذي علم أن موسى هو من قتل الفرعوني ، فما كان من موسى إلا أن هرب من مصر كلها في طريق يقوده إلى مدين دون أن يعلم، طالباً من الله المعونة، والدليل نص القرآن الكريم : ( عَسَى رَبِّي أَن يَهْدِيَنِي سَوَاء السَّبِيلِ ) القصص 22
ولما وصل ماء مدين ،كانت المرأة التي ستصبح زوجه هناك والتي سترافقه في رحلته إلى الوادي المقدس. إذاً تعالوا بنا نستمتع بالقص القرآني وبالأحداث التي جرت قبل النبوة مباشرة. يقول القرآن الكريم:
( وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ – فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) القصص23 -24 .
وهكذا انتهت به الرحلة الشاقة إلى ماء مدين، ففوجئ بمنظر لا تستريح له عين المروءة والشهامة حيث وجد رعاءً يسقون أغنامهم، ووجد امرأتين تمنعان الغنم من ورود الماء، وكان الأَوْلى أن يفسح لهما الرجال بل ويعينوهما، ورغم أن موسى عليه السلام كان خائفاً هارباً مطارداً متعباً بل وفي أقصى درجات الإجهاد والنصب والجوع، لكن نفسه النبيلة التي صُنعت على عين الله أبت أن تترك المرأتين وحيدتين في خضم الرجال دون مساعدة، فسألهما (مَا خَطْبُكُمَا) أي ما شأنكما العجيب هذا، تقفان في منطقة التزاحم على السقيا ولا تسقيان ؟!! فأطلعتاه على سبب انزوائهما وتأخرهما: إنه الضعف فهما امرأتان وهؤلاء الرعاء رجال وليس من اللائق بالأنوثة مزاحمتهم، هذا وإن أباهما شيخ كبير لا يستطيع أن يورد الأغنام الماء، فما كان من موسى إلا المساعدة فوراً، يا الله ما أجمل مروءة موسى وما أحلى نجدته وما أكمل معروفه الذي صنعه ثم انصرف دون أخذ وردّ، وما أحسن ردّ الفتاتين ذلك الرد المؤدب المقتضب المُفهم الذي أزال استفهام موسى بل واستنكاره.
والآن حري بنا أن نقف مع بعض اللقطات الإيمانية المبهرة في هذه القصة التي تضع بعض المبادئ التربوية للمجتمع الإنساني:
)لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء) : إذاً هناك أعمال خاصة بالرجال تحتاج إلى جهد كبير وقوة متميزة لا تتوفران في الأنوثة، ومنها رعي الغنم مثلاً.
( وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ ) : فالفتاتان لم تخرجا للعمل إلا لضرورة ألزمتهما، فالمرأة لا تؤدي مهمة الرجال إلا إذا عجزوا عن أدائها.
( فَسَقَى لَهُمَا ) : إذاً على المجتمع الإنساني أن يساعد المرأة التي خرجت للعمل الضروري وهذا يدل على درجة أخلاقية هذا المجتمع، فلا مانع من أن تعمل المرأة إذا توفرت ضرورة الخروج للعمل وعليها أن تأخذ من الضرورة بقدرها فلا تختلط ولا تزاحم بالمناكب، ولا تخضع بالقول ،وتكون جادة في كلامها رزاناً في تصرفاتها، محتشمة في كسائها.
انتهى موسى من سقي أغنام الفتاتين وكان الجو حاراً قائظاً فآوى إلى الظل وهو يناجي ربه قائلاً: ( رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) مناجاة مفعمة بعبير العبودية، وصدق الالتجاء إلى الحمى الآمن ويقين عظيم بوحدانية الربوبية التي يكون الخير منها في الحقيقة وإن جاء على يد عبد مثله، ذلك لأنك حين تسلسل أي خير في الدنيا لا بد أن ينتهي إلى الله المنعم الأول، فالرزق لا يكون إلا من الله تعالى والفقر لا يكون إلى إليه، والسؤال لا يكون إلا له.
ولكن يجب أن أشير إلى نقطتين هامتين كي لا يلتبس الأمر على البعض:
الأُولى أنه لابد من شكر الناس إذا صنعوا لنا معروفاً لأن حمد الناس من باطن حمد الله، فإذا حمدت أحدهم على جميل أسداه لك فأنت في الحقيقة تحمد الله حيث ينتهي إليه كل جميل ، وقد قال نبينا محمد – صلى الله عليه وسلّم – سيد الأخلاق: (من صنع إليه معروف فقال لفاعله جزاك الله خيراً فقد أجزل في الثناء) أخرجه الترمذي.
الثانية .. إن ما يقوله بعض الناس لمن صنعوا له معروفاً يمنون به عليه: لحم أكتافك من خيري…! فهذا سفه وافتراء لأننا جميعنا عيال على مائدة الله الكريم، والمن والأذى عند العطاء ليست من شيم الكرام، ولا من صفات مَن انتسب للإسلام، بل على المرء أن يشكر الله ويحمده عندما يعطي المحتاجين لأنه يسر له كي يزيد من حسناته أو يحط من سيئاته.
ولما طلب موسى من الرب الرحيم الكريم جاء الفرج والخير العميم واستجابت السماء للقلب الضارع المستكين : ( فَجَاءتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاء قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا ) القصص 25 ، جاءت إحدى الفتاتين تمشي مشية الفتاة الفاضلة العفيفة، جاءته لتقدم إليه دعوة في أقصر لفظ وأوضح عبارة بمنتهى الإبانة والوضوح دون تلجلج وارتباك، ودون ضعف واضطراب، كما حكاها القرآن الكريم: ( إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) ،واستجاب موسى لدعوة الشيخ الكبير الذي سكت القرآن عن ذكر اسمه، وهنا لابد من وقفة أيضاً لنتعلم كيف يمكننا الربط بين الأحداث لأن القرآن الكريم له طريقته الخاصة في عرض القصص ليقدم أبلغ عبرة في أقصر عبارة وهو ليس كتاب تأريخ كما يحلو للبعض وصفه ولاسيما المستشرقين كي يخلصوه من صفة القدسية والتشريع، وتتلخص طريقة القرآن الكريم في عرض القصة أنه يقسمها إلى مشاهد ويجعل بينها فجوات فنية قابلة للملء المنطقي من آية أخرى أو من مصدر علمي آخر كما الآن في قصة الشيخ الكبير فقد زعم بعض المفسرين أنه النبي شعيب عليه السلام وهذا لا يلزم لأن شعيباً كان قبل زمان موسى بمدة طويلة فقد قال لقومه بنص القرآن الكريم: (وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ) هود 89 ، وقد كان هلاك قوم لوط في زمن الخليل عليه السلام الذي جادل ربه كي يغفر لهم، بنص القرآن أيضاً : ( فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ) هود 74 ، وقد علمنا بالدليل أنه كان بين الخليل وموسى عليهما السلام مدة طويلة تزيد على أربعمئة عام، وما قيل من أن شعيباً عاش عمراً طويلاً إنما هو احتراز من هذا الإشكال والله أعلم، وما يدعم أنه ليس شعيباً أيضاً الحركة الفنية للقصة نفسها وذلك أن شعيباً شهد مهلك قومه الذين كذبوه ولم يبق منهم إلا المؤمنون به: (وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا) هود 94 ،فلو كان هو شعيب النبي بين بقية المؤمنين ما سقوا قبل بنتي نبيهم الشيخ الكبير…!! فليس هذا سلوك قوم مؤمنين ولا معاملتهم لنبيهم وبناته، ثم إن القرآن لم يذكر شيئاً عن تعليم موسى من قبل شعيب فلو كان هذا الشيخ شعيباً لسمعنا صوت النبوة مع موسى وقد عاش معه عشر سنوات كاملة ..!
قَدِم موسى على الشيخ وهو في حالة نفسية متعبة وكانت حاجته إلى الأمن أشد من حالة جسده إلى الزاد ولهذا بدأ السياق في مشهد اللقاء قول الشيخ الوقور لموسى: ( لَا تَخَفْ) يسكب في قلبه الطمأنينة ويشعره بالأمان، ثم علل ذلك: (نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) إذ لا سلطان لفرعون على مدين، ولا يصلون لمن فيها بأذى.
ثم نسمع في المشهد التالي صوت الأنوثة المستقيمة ببراءة حس ونظافة نفس: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) فالمرأة لم تعشق الخروج للعمل مع الرجال وإنما تطلب من يقوم به نيابة عنها لتقر في بيتها، ثم تذكر هذه المرأة حيثيات العرض على أبيها: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) شرطان لا بد من توفرهما في الأجير: قوة في العمل وأمانة في الأداء، وهذا كان واضحاً في شخصية موسى ذي الجسد القوي، عفيف النظر نظيف الحس، هذا وإن القوة والأخلاق الحميدة لا تحتاجان لتكلف بل تنضح من الحضور الأول، ولهذا لا حاجة لكل ما روي عن دلائل قوة موسى من رفع حجر كبير كان موضوعاً فوق البئر، فالبئر لم يكن مغطى، وكل ما في الأمر أن الرعاء كانوا يسقون فسقى للمرأتين معهم. وقصة أنه قال للفتاة امشي خلفي كي لا يرى مفاتنها فهذا تكلف لا داعي له، ودفع لريبة لا وجود لها.
أعجب الشيخَ الجليل اقتراحُ ابنته في أن يعمل عنده هذا الصالح المتميز، ولكن لا بد من قرار حازم صائب في مثل هذه المواقف فالرجل هارب لا مأوى له، و سيكون أجيراً عنده، يتردد على بيته ليل نهار، ذهاباً إياباً، وفي بيته بنتان، ثم يتفتق ذهن الشيخ الحكيم عن حل ممتاز ومريح لكل الأطراف وهو إيجاد علاقة شرعية تبيح بل تحلل وجوده في بيته، يزوجه إحداهما فيخلق وضعاً يستريح له الجميع: (قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) القصص 27
والآن نأتي إلى سؤال يستحق أن نهتم به ونلفتَ إليه: هل كان من اللائق أن يعرض الرجل ابنته على موسى للزواج ؟! والجواب: نعم قد تمنع الأب كبرياؤه من أن يعرض ابنته على شاب فيه كل صفات الزوج الصالح، وقلة من الآباء من يرضى أن يفعل ذلك، ولكن هذه حكمة من الأب في أمر زواج ابنته، لاسيما إذا كان الشاب ممن يُرضى خلقه ودينه، ولكن وضعه الاجتماعي لا يسمح له أن يتقدم خشية الرفض، ففي هذه الحالة يجرّئ الأب الشاب على التقدم، فيلمح له بالقبول إذا تقدم كأن يقول له مثلاً: “ألف بنت تتمناك”. ولكن أن يرتقي الأب إلى مستوى التصريح كما فعل الشيخ فهذا موقف متميز وأدب عالٍ من العارض ومن المعروض عليه، وفي مجتمعنا كثير من الشبان ينتظرون مثل هذا التشجيع من أولياء أمور البنات، وهذا يوافق الشرع فالله سبحانه وتعالى أباح لنا أن نعرِّض بالزواج لمن توفي عنها زوجها: (وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء) البقرة 235 ، ونجد أن الأب لم يرخص ابنته – مع أنها ليست سلعة – بل طلب لها مهراً يحفظ كرامتها ويشعر زوجها بقيمتها، وهذا مقبول لا يشق على الخاطب طالما أنه قادر عليه.
وهكذا عرض الشيخ ابنته على موسى من غير تحرج، فهو يعرض علاقة شرعية ترضي الله تعالى، إذ يعرض بناء أسرة وإقامة بيت صالح وليس أثمن من هذه اللبنة التي يتكون منها المجتمع الإنساني الحقيقي.
ولا يسعنا إلا أن نبدي إعجابنا في كل مرة بأخلاق هذا الشيخ الجليل الذي عرض على موسى ذلك العرض النظيف واعداً إياه أن لا يشق عليه ولا يتعبه في العمل، راجياً أن يجده موسى من الصالحين في معاملته ووفائه، وهذا أدب رفيع في التحدث عن النفس، فهو لا يزكّي نفسه ولا يجزم أن يكون من الصالحين ولكن يرجو أن يكون كذلك، يقول: ( وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ )القصص 27 .
وقبل موسى العرض وأشهد الله نعم الوكيل قائلاً : (ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) القصص 28 ،وقد ورد في الصحيح أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلّم أخبر عن موسى أنه (قضى أكثرهما وأطيبهما).
وهكذا أقام موسى عليه السلام في مدين يرعى أغنام حميه، وقد اطمأن وأمن من فرعون وكيده، ويسكت سياق القرآن عند هذا الحد وتمضي السنوات العشر دون أن يذكر عنها شيئاً ويكون هذا الزمن المنصرم تهيئة لموسى قبل تكليفه بالرسالة التي تلقاها بطريقة مميزة فقد كلّمه الله تعالى تكليماً، فالسلام عليك يا كليم الله في البقعة المباركة. وإني يا رسول الله أتشرّف بالحديث عنك علّنا نتعلم منك شيئاً من صبرك العظيم، الذي تنوء بحمله الجبال، وقد أرسِلتَ إلى أكثر أهل الأرض جدلاً وطمعاً وتعنتاً وتحريفاً، أرسِلتَ إلى بني إسرائيل، وكنت في زمن الفرعون، أكثر الطواغيت ظلماً وقهراً واستبداداً، فرأيتَ من أخلاق البشر أسوأها وأرذلها، وعاينتَ من رموز الظلم في زمانك أحطها: هامان وقارون والسامرائي، فهنيئاً لك صبرك الجميل وأداؤك لرسالة السماء المقدّسة.
أرسلت فى صيد الجمان من بحار القرآن | اكتب تعليقُا
أضف تعليق